الأربعاء، 26 يناير 2022

قراءة في كتاب "الحياة والسلطة مقدمات لإعادة تأسيس سياسة الوجود" لمصطفى الحسناوي

 

قراءة في كتاب "الحياة والسلطة مقدمات لإعادة تأسيس سياسة الوجود"

لمصطفى الحسناوي

 

 

                                                                                     




 

صدر عن دار دال بسوريا سنة 2012 كتاب تحت عنوان:" الحياة والسلطة مقدمات لإعادة تأسيس سياسة الوجود"، للكاتب المغربي مصطفى الحسناوي ، وهو  الكتاب الثامن ضمن ريبيرتوار مشروعه الفكري. وقد ضم بين دفتيه عشرة فصول جاءت على النحو التالي: 1) في الحياة والسلطة 2) حيوات في محك السلطة 3) سبينوزا: الفلسفة والسياسة 4) سبينوزا أو أراضي الديموقراطية البكر 5) سبينوزا أو مديح الإنسان الحر 6) قريبا جدا من الحرية 7) الفلسفة والتخيل السياسي 8) الحرية واقتصاد الحقيقة 9) تعب الأرض 10) هوامش حول الحرب والسلام. وفي قراءة أفقية للعناوين، وأخرى عمودية في المضمون. يتأكد لنا أن صاحب كتاب "فوكو والسياسة"، ما يزال يواصل حفره مرة أخرى، ويعمق تنقيبه في أحد أعمق الأسئلة الفلسفية والفكرية إشكالا في تناولها عبر العصور. وهي بالمناسبة تدخل ضمن انشغالات الكاتب، الذي سبق له أن خصص مقالات وفصولا وكتبا قارب من خلالها مفهوم السلطة. هذا المفهوم الشائك والزئبقي على حد سواء، وذلك لما يكتسيه من أهمية بالغة، لعلاقته المباشرة بحياة الأفراد وتنظيم تجمعاتهم. خصوصا وأن مجموعة من المفاهيم الأخرى تتفرع عنه وتتصل به أشد ما تتصل. ذلك أنه يشكل الأرضية التي تنبني عليها مجموعة من الأسئلة المرتبطة به والمتساوقة معه، من قبيل سؤال الحرية والدولة والحقيقة والثقافة والشخص وغيرها. وفي هذا الإطار تبرز الحياة كسقف مأمول لكل هذه الأسئلة، لتتحقق بصورة متكاملة، تضمن للإنسان -غايتها الأولى أولا وأخيرا- أن يحيا ويتعايش جماعيا بعيدا عن الإنهمامات الحزينة بلغة سبينوزا. وحين ينطرح الغياب هنا كأفق للمساءلة الفلسفية العميقة، باعتباره محرضا فعالا على التفكير في مسألة الوجود، فذلك لكونه يشكل معطى إشكاليا حول المآلية الإنسانية، لما يضفيه من تصور لوحدة عضوية ينبثق عنها تأسيس لمدلول سياسة الوجود من خلال مجموعة من الغيابات: "نسيان الكينونة، فقدان الحياة لزخمها الفعال، انحطاط السياسي le politique وغيابه... إلخ" (ص 6). كلها تجتمع لبلورة فكر متجدد، يجعل من أولوياته تحقيق الغاية الأولى التي جاء من أجلها، وهي جعل الإنسان يتعايش جماعيا في سياق يملؤه الأمل، استجابة للطبيعة الإنسانية التي تتوافق وإياه. لا يبدو الغياب هنا إلا صورة تحتم على الإنسان أن يتموقع في إطار للتجريب السياسي، يضمن له التعايش مع الآخر بعيدا عن كل تعصب. إنه نداء الجماعة، الذي لا ينأسر بأي شكل من الأشكال، ولا يروم في أي مطلب من مطالبه تحقق الحياة العارية. ولكن بالمقابل يروم الحرية في إطار توافقي، يتنازل بموجبه عن بعض حقوقه لصالح منتظم جامع بيده السلطة. هذا المنتظم هو جهاز الدولة، في مقابل أن يمتعه بشروط حياة تضمن له مجموعة من الحقوق، وفق تصور تعاقدي بين الفرد والكيان الجمعي الذي ينتمي إليه ويعيش في كنفه. وما دامت صحة كل عقد رهينة بمنفعته، فهي تخول له مجموعة من الحقوق التي تتساوق وطموحات الفرد. يشتغل مفهوم الغياب هنا أيضا حين نجعله إزاء غياب المؤسسات التي تقوم عليها السلطة وتستدعي تصورا حولها، يكشف مدى البشاعة التي يخفيها هذا الغياب، حيث تتبدى الحياة العارية كخطر محدق بالفرد. لذلك كان من الضروري في كل مراحل الفكر أن يكون السؤال السياسي الذي يهم المآلية الإنسانية دائم الحضور، وإن كان يواجه قوة نابذة أحيانا من قبل الأجهزة القمعية التي تروم استعباد الأفراد، وتحريكهم كدمى. وجود تنعدم من خلاله الإرادة. إنه امتداد للحياة العارية التي تمتد في اتجاه قوة واحد عمودي ورأسي، يلقي بظلاله على الفرد ويحد من حريته وتطلعه نحو حياة يطبعها الفرح الذي يتوافق والطبائع البشرية. في هذا السياق كان التصور السبينوزي تشييدا إيجابيا للحرية وإعادة لبناء تصور جديد حول مفهوم السلطة، يروم بناء مشروع قانون ديموقراطي ودستوري يضمن للتجمعات الإنسانية أن تعيش في ظل اللقاءات الفرحة، بعيدا عن الإنهمامات الحزينة التي لا تتساوق والطبيعة الإنسانية:العيش طبقا لقوانين العقل ومعاييره اليقينية. إنه التشييد الإيجابي للحرية، تشييد عالم الثقافة بالمقابل لعالم الطبيعة أو الحياة العارية. "لأن الإنسان، هو جوهريا، الكائن العديم الماهية ووجوده وحريته هما الشرطان الأساسيان لإمكانيته كإنسان صائن لكرامته، أي متوفر على إنسانيته. لا يكون الإنسان إنسانا بالضرورة ومنذ البدء ولكنه يصير كذلك." (ص 19) وفي رسالة في اللاهوت والسياسة التي تناولها الكتاب في محاولة للبحث في آفاقها، يقول سبينوزا فيما معناه أن حضور الإنهمامات الحزينة تقوم على ثنائية الخوف والأمل، وحيثما حلا معا كان ارتكاز الأمة على الإنفعالات الكبرى وليس على العقل الذي ينبذ الخرافة. وبالتالي فالسلطة التي تكرس الإنهمامات الحزينة هي سلطة تقوم على مرتكز الخرافة أولا وأخيرا. وبذلك كان من الضروري تشييد تصور عقلاني يكون من خلاله الإمتثال للقانون في إطار توافقي، هو الميزان الأساس بين الفرد والسلطة. يتنازل الأفراد عن مجموعة من الحقوق الطبيعية وتخويلها لقوة تضمن تطبيق قانون يضمن حقوق الأفراد في صبغة تعايش جماعي. حيث لا يجب علينا أن ننطق بخضوع الرعايا إلا لسلطة القانون الذي يتجسد فيه الخير العام للأفراد كافة. وهذا ينزع من الحرية مفهومها الطبيعي المطلق؛ إن الحرية ليست في سيطرة الشهوة على الفرد إلى درجة لا يرى فيها ما تتطلبه مصلحته الحقيقية. ويمكن اعتبار الإنقياد لسيطرة الشهوة هنا أحط أنواع العبودية، كما أشار إلى ذلك سبينوزا. إنه التصور العقلاني للحرية.

أما في معرض محاورته لمقال فوكو المعنون بحياة السفلة، يدرج مصطفى الحسناوي عنوانا هامشيا خاصا بالمقال هو "حيوات في محك السلطة"، ليطرحنا في أجواء مقال فوكو، الذي يتحدث من خلاله عن حيوات لأشخاص عاديين، كان بالإمكان أن يعبروا كذوات لا تخلف وراءها أثرا، ذوات تتنقل في سرية وهامشية فادحة، لولا أن سلطت عليها الأضواء بغتة في اصطدامها بالسلطة، لتمارس عليها استراتيجيتها وتدخل بذلك في نظام اصطدامي، يحدث أثرا في الحياة، ويكون له صدى يخرج هاته الحيوات من منطقة الظل، ليلقي بها في منطقة الضوء. يأتي مقال حياة السفلة إذن كحلقة مكملة وحلقة لها من الخصوصية والأهمية الشيء الكبير. حيث تكمن أهميته في كونه جاء كتوطئة أو مقدمة لما أطلق عليه فوكو أنطلوجيا الوجودات anthologie des existences. وذلك حتى يستدرك شيئا مهما كان قد عمل على بلورته خلال اشتغاله الفكري والمشكل لما يمكن اعتباره كخلاصة لفكره، ألا وهو إعطاء فرصة لهاته الحيوات وهؤلاء الأفراد حتى يكون لها صوت كقوة مستخلصة تمارس استراتيجية السلطة كصدى يرد على صوت المؤسسات، التي كانت نبرتها طاغية في كتاب المراقبة والعقاب على حساب صوت الأفراد. إن كلمة سفلة ليس لها أي بعد أخلاقي هنا، لكنها تعني فيما تعنيه أولئك الأفراد الذين لولا أن الأقدار طرحتهم في مواجهة مع السلطة لكان عبورهم سريا. "إن السافل هو الذي يلفي نفسه فجأة وقد تلقفته استراتيجية السلطة التي تظل غامضة بالنسبة له، والتي ترمي تاريخيا إلى إقرار عدد من التقسيمات والتصنيفات المعرفية والأجهزة الإجتماعية لإخضاعه للمعيار باعتباره المتعذر تصنيفه والمثير للقلق والغرابة تماما كما المجنون أو المريض والمجرم" ( ص 30). يختلف تصور فوكو لمفهوم السلطة عن كل من سبقوه. بل إن فلسفته هي بمثابة تقويض للمفاهيم السابقة حول السلطة، حيث يبدو أن تصوره هو قلب لما كان يعتقد في البداية على أن السلطة بيد جهاز الدولة، وتنطلق في منحى رأسي من الحاكم إلى الرعية وفق التصور التعاقدي بين أطراف مكتملي الإرادة يتنازلون عن بعض حقوقهم لصالح جهاز حاكم ينظم العلاقات بينهم . في حين يتجلى تصور فوكو للسلطة على أنها صراع مجموعة من نقاط القوة في جسم المجتمع، حيث تنطلق في جميع الإتجاهات رأسيا وأفقيا. وبهذا فهي نتاج مجموعة من القوى التي تمارس استراتيجيتها. وهي بهذا المفهوم تشكل نقدا لما جاء به الماركسيون "إذ بينما ألح الماركسيون على الطبقات التي غالبا ما يبلورون تصورا عنها تمثلا سوسيولوجيا، ألح فوكو على الصراع وتم تعويض الجدل بالإستراتيجية واتجاهاتها." ص 10.إن هذا التحليل ينطلق من تحليل تاريخي واقعي على عكس ما انطلقت منه فلسفة العقد الإجتماعي من افتراضات فكرية. لا يمكن تصور السلطة لدى فوكو كأنها قوة ميكانيكية تمارس ضغطها على عناصر مطاوعة لا تبدي أية مقاومة. بل على العكس هناك دوما فضاء متحرك يشمل مقاومات متعددة ومجابهات نتيجة علاقات الهيمنة المتصارعة فيما بينها. إنه التصور المعاصر للسلطة الذي يحتمل في جوهره التحليل الميكروفيزيائي للسلطة كاستراتيجية وليس كأجهزة. بخصوص مقال حياة السفلة يقول ميشيل فوكو: " كنت أودها دائما أن تكون وجودات حقيقية بحيث يمكننا أن نعطيها مكانا وتاريخا. وأنه وراء تلك  الأسماء التي لا تقول شيئا، وراء هذه الكلمات السريعة والتي تكون في غالب الأحيان مضللة كاذبة وغير عادلة وفاحشة. كان هناك ناس عاشوا وماتوا. المعاناة والحقد والغيرة والجلبة... لذلك تجنبت كل ما له علاقة بالخيال والأدب". إنها الكتابة الأرشيفية لأصوات أفراد وذوات كان لاصطدامها بالسلطة دور في جعلها تبقى حاضرة في التاريخ البشري حضورا قيميا. ولذلك أراد لها فوكو أن تظهر عارية من الإستعارات، بالرغم من كون مجال الأدب وجمالياته يدخل ضمن انشغالات فوكو الأساسية. لقد كان لهذا المقال شأن كبير في المشروع الفوكوي الذي استدرك به ليعطي للأفراد الحق في قول كلمتها. وكأنه بذلك يبدع الفضاء الذي يمسرح عليه هذا الصراع بين القوى الآنفة الذكر، بين صوت المؤسسات وصوت الأفراد. لقد شكل تصور فوكو للسلطة قطيعة مع الفكر الغربي عامة ونقد لفلسفة الأنوار. إن جهاز الدولة حسب فوكو لا يمتلك سلطة بيده يمارسها بشكل عمودي ورأسي أي سلطة الحاكم على الرعية. ولكنها وفق هذا التصور هي مجموعة من القوى المتصارعة فيما بينها. إنها مجموع سلط تتمثل في كل صور المجتمع وآلياته، من المؤسسات حتى الأسرة  واللغة إلخ... كلها تتضافر لتشكل الجسد العام لجهاز السلطة في عموميته واشتغاله.

لقد كان مصطفى الحسناوي في كتابه هذا بالغ الإنصات للفكر الغربي في طرحه للعلاقة بين مفهوم السلطة والحياة، وتمثله لتأسيس جديد لسياسة الوجود من خلال مجموعة من التصورات لكبار فلاسفة ومفكري الغرب. كما يمكن اعتبار الكتاب حلقة مكملة لسلسلة متواصلة في مشروعه من الكتب والمقالات التي تناولت هؤلاء العمالقة وقاربتهم في مجموعة من المحطات، أمثال ماركس وميشيل فوكو وسبينوزا وهايدغر ونيتشه وغيرهم. وهذا لا يبدو غريبا على كاتب يشتغل بحرفية وحساسية عالية وعمق كبير على المورورث الفكري. وهو ما يبدو جليا في كل أعماله الفكرية، خصوصا وأنه يعتمد في مراجعه نسختها الفرنسية واشتغاله على ترجماته الخاصة. كأنه بذلك يأبى إلا أن يكون قريبا أشد ما يمكن الإقتراب من النبع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق